الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الطبري المسمى بـ «جامع البيان في تأويل آي القرآن» ***
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: " وَالصَّفَا " جَمَعُ صَفَاةٍ، وَهِيَ الصَّخْرَةُ الْمَلْسَاءُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الطِّرِمَّاحِ: أَبَـى لِـي ذُو القُـوَى وَالطَّـوْلِ أَلَّا *** يُـؤَبِّسَ حَـافِرٌ أَبَـدًا صَفَـاتِي وَقَدْ قَالُوا إِنَّ " الصَّفَا " وَاحِدٌ، وَأَنَّهُ يُثَنَّى صَفَوانِ، وَيُجْمَعُ أَصْفَاء وَصُفِيًّا، وَصِفِيًّا، وَاسْتَشْهَدُوا عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِ الرَّاجِزِ كـأنَّ مَتْنَيْـهِ مِـنَ النَّفِـيِّ *** مَـوَاقِعُ الطَّـيْرِ عَـلَى الصُّفِـيِّ وَقَالُوا: هُوَ نَظِيرُ " عَصَا وعُصِيٍّ [وَعِصِيٍّ، وَأَعْصَاءَ]، وَرَحَا ورُحِيٍّ [وَرِحِيٍّ] وَأَرْحَاءَ ". وَأَمَّا الْمَرْوَةُ، فَإِنَّهَا الْحَصَاةُ الصَّغِيرَةُ، يُجْمَعُ قَلِيلهَا مَرَواتٍ، وَكَثِيرُهَا المرْوُ، مِثْلَ تَمْرَةٍ وَتَمَرَاتٍ وَتَمْرِ، قَالَ الْأَعْشَى مَيْمُونُ بْنُ قَيْسٍ: وَتَـرَى بـالْأَرْضِ خُفًّـا زائِـلًا *** فَـإِذَا مَـا صَـادَفَ المَـرْوَ رَضَـحَ يَعْنِي بِـ " الْمُرْوِ ": الصَّخْرَ الصِّغَارَ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ أَبِي ذُؤَيْبٍ الْهُذَلِيِّ: حَـتَّى كـأنِّي لِلْحَـوَادِثِ مَـرْوَةٌ *** بِصَفَـا المُشَـرَّقِ كُـلَّ يَـوْمٍ تُقْـرَعُ وَيُقَالُ " المشقَّرُ ". وَإِنَّمَا عَنَى اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ}، فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: الْجَبَلَيْنِ الْمُسَمَّيَيْنِ بِهَذَيْنَ الِاسْمَيْنِ اللَّذَيْنِ فِي حَرَمِهِ، دُونَ سَائِرِ الصَّفَا وَالْمُرْوِ. وَلِذَلِكَ أَدْخَلَ فِيهِمَا الْأَلِفَ وَاللَّامَ، لِيَعْلَمَ عِبَادُهُ أَنَّهُ عَنَى بِذَلِكَ الْجَبَلَيْنِ الْمَعْرُوفَيْنِ بِهَذَيْنَ الِاسْمَيْنِ، دُونَ سَائِرِ الْأَصْفَاءِ وَالْمَرْوِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ}، فَإِنَّهُ يَعْنِي: مِنْ مَعَالِمِ اللَّهِ الَّتِي جَعَلَهَا تَعَالَى ذِكْرُهُ لِعِبَادِهِ مَعْلَمًا وَمَشْعَرًا يَعْبُدُونَهُ عِنْدَهَا، إِمَّا بِالدُّعَاءِ، وَإِمَّا بِالذِّكْرِ، وَإِمَّا بِأَدَاءِ مَا فَرَضَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْعَمَلِ عِنْدَهَا. وَمِنْهُ قَوْلُ الْكُمَيْتِ: نُقَتِّلُهُـمْ جِـيَلًا فَجِـيلًا تَـرَاهُمُ *** شَـعَائِرَ قُرْبَـانٍ بِهِـمْ يُتَقَـرَّبُ وَكَانَ مُجَاهِدٌ يَقُولُ فِي الشَّعَائِرِ بِمَا:- حَدَّثَنِي بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} قَالَ، مِنَ الْخَبَرِ الَّذِي أَخْبَرَكُمْ عَنْهُ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ. فَكَأَنَّ مُجَاهِدًا كَانَ يَرَى أَنَّ الشَّعَائِرَ، إِنَّمَا هُوَ جَمْعُ شَعِيْرَةٍ، مِنْ إِشْعَارِ اللَّهِ عِبَادَهُ أَمْرَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَمَا عَلَيْهِمْ فِي الطَّوَافِ بِهِمَا. فَمَعْنَاهُ: إِعْلَامُهُمْ ذَلِكَ. وَذَلِكَ تَأْوِيلٌ مِنَ الْمَفْهُومِ بَعِيدٌ. وَإِنَّمَا أَعْلَمَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ السَّعْيَ بَيْنَهُمَا مِنْ مَشَاعِرِ الْحَجِّ الَّتِي سَنَّهَا لَهُمْ، وَأَمَرَ بِهَا خَلِيلَهُ إِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذْ سَأَلَهُ أَنْ يُرِيَهُ مَنَاسِكَ الْحَجِّ. وَذَلِكَ وَإِنْ كَانَ مَخْرَجُهُ مَخْرَجَ الْخَبَرِ، فَإِنَّهُ مُرَادٌ بِهِ الْأَمْرُ. لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ قَدْ أَمَرَ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاتِّبَاعِ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَقَالَ لَهُ: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [سُورَةُ النَّحْلِ: 123]، وَجَعَلَ تَعَالَى ذِكْرُهُ إِبْرَاهِيمَ إِمَامًا لِمَنْ بَعْدَهُ. فَإِذْ كَانَ صَحِيحًا أَنَّ الطَّوَافَ وَالسَّعْيَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ وَمِنْ مَنَاسِكِ الْحَجِّ، فَمَعْلُومٌ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ عَمِلَ بِهِ وَسَنَّهُ لِمَنْ بَعْدَهُ، وَقَدْ أُمِرَ نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَّتَهُ بِاتِّبَاعِهِ، فَعَلَيْهِمُ الْعَمَلُ بِذَلِكَ، عَلَى مَا بَيَّنَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ: {فَمِنْ حَجَّ الْبَيْتَ}، فَمَنْ أَتَاهُ عَائِدًا إِلَيْهِ بَعْدَ بَدْءٍ. وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ أَكْثَرَ الِاخْتِلَافَ إِلَى شَيْءٍ فَهُوَ حَاجٌّ إِلَيْهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: لأَشْـهَدَ مِـنْ عَـوْفٍ حُـلُولًا كثِـيرَةً *** يَحُجُّـونَ سِـبَّ الزِّبْرِقَـانِ المُزَعْفَـرَا يَعْنِي بِقَوْلِهِ: يَحُجُّونَ، يُكْثِرُونَ التَّرَدُّدَ إِلَيْهِ لِسُوْدَدِهِ وَرِيَاسَتِهِ. وَإِنَّمَا قِيلَ لِلْحَاجِّ حَاجٌّ، لِأَنَّهُ يَأْتِي الْبَيْتَ قَبْلَ التَّعْرِيفِ، ثُمَّ يَعُودُ إِلَيْهِ لِطَوَافِ يَوْمِ النَّحْرِ بَعْدَ التَّعْرِيفِ، ثُمَّ يَنْصَرِفُ عَنْهُ إِلَى مِنًى، ثُمَّ يَعُودُ إِلَيْهِ لِطَوَافِ الصَّدْرِ. فَلِتَكْرَارِهِ الْعُودَ إِلَيْهِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى قِيلَ لَهُ: " حَاجٌّ ". وَأَمَّا الْمُعْتَمِرُ، فَإِنَّمَا قِيلَ لَهُ: مُعْتَمِرٌ، لِأَنَّهُ إِذَا طَافَ بِهِ انْصَرَفَ عَنْهُ بَعْدَ زِيَارَتِهِ إِيَّاهُ. وَإِنَّمَا يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: {أَوْ اعْتَمَرَ}، أَوِ اعْتَمَرَ الْبَيْتَ، وَيَعْنِي بِـ " الِاعْتِمَارِ " الزِّيَارَةَ. فَكُلُّ قَاصِدٍ لِشَيْءٍ فَهُوَ لَهُ " مُعْتَمِرٌ)، وَمِنْهُ قَوْلُ الْعَجَّاجِ: لَقَـدْ سَـمَا ابْـنُ مَعْمَـرٍ حِـينَ اعْتَمَرْ *** غْـزًى بَعِيـدًا مـِنْ بَعِيـدٍ وَضَـبَرْ يَعْنِي بِقَوْلِهِ: " حِينَ اعْتَمَرَ)، حِينَ قَصَدَهُ وَأَمَّهُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: {فَلَا جَنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا}، يَقُولُ: فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ وَلَا مَأْثَمَ فِي طَوَافِهِ بِهِمَا. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَمَا وَجْهُ هَذَا الْكَلَامِ، وَقَدْ قُلْتَ لَنَا، إِنَّ قَوْلَهُ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ}، وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُهُ ظَاهِرَ الْخَبَرِ، فَإِنَّهُ فِي مَعْنَى الْأَمْرِ بِالطَّوَافِ بِهِمَا؟ فَكَيْفَ يَكُونُ أَمْرًا بِالطَّوَافِ، ثُمَّ يُقَالُ: لَا جُنَاحَ عَلَى مَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فِي الطَّوَافِ بِهِمَا؟ وَإِنَّمَا يُوضَعُ الْجُنَاحُ عَمَّنْ أَتَى مَا عَلَيْهِ بِإِتْيَانِهِ الْجَنَاحَ وَالْحَرَجَ؟ وَالْأَمْرُ بِالطَّوَافِ بِهِمَا، وَالتَّرْخِيصُ فِي الطَّوَافِ بِهِمَا، غَيْرُ جَائِزٍ اجْتِمَاعُهُمَا فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ؟ قِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ بِخِلَافِ مَا إِلَيْهِ ذَهَبْتَ. وَإِنَّمَا مَعْنَى ذَلِكَ عِنْدَ أَقْوَامٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا اعْتَمَرَ عُمْرَةَ الْقَضِيَّةِ، تَخَوَّفَ أَقْوَامٌ كَانُوا يَطُوفُونَ بِهِمَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ لِصَنَمَيْنِ كَانَا عَلَيْهِمَا تَعْظِيمًا مِنْهُمْ لَهُمَا، فَقَالُوا: وَكَيْفَ نَطُوفُ بِهِمَا، وَقَدْ عَلَّمَنَا أَنَّ تَعْظِيمَ الْأَصْنَامِ وَجَمِيعَ مَا كَانَ يُعْبَدُ مِنْ ذَلِكَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، شِرْكٌ؟ فَفِي طَوَافِنَا بِهَذَيْنَ الْحَجَرَيْنِ أَحْرَجُ ذَلِكَ، لِأَنَّ الطَّوَافَ بِهِمَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِنَّمَا كَانَ لِلصَّنَمَيْنِ اللَّذَيْنِ كَانَا عَلَيْهِمَا، وَقَدْ جَاءَ اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ الْيَوْمَ، وَلَا سَبِيلَ إِلَى تَعْظِيمِ شَيْءٍ مَعَ اللَّهِ بِمَعْنَى الْعِبَادَةِ لَهُ! فَأَنـْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ فِي ذَلِكَ مِنْ أَمْرِهِمْ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ}، يَعْنِي: إِنَّ الطَّوَافَ بِهِمَا، فَتَرَكَ ذِكْرَ الطَّوَافِ بِهِمَا، اكْتِفَاءً بِذِكْرِهِمَا عَنْهُ. وَإِذْ كَانَ مَعْلُومًا عِنْدَ الْمُخَاطَبِينَ بِهِ أَنَّ مَعْنَاهُ: مِنْ مَعَالِمِ اللَّهِ الَّتِي جَعَلَهَا عَلَمًا لِعِبَادِهِ يَعْبُدُونَهُ عِنْدَهُمَا بِالطَّوَافِ بَيْنَهُمَا، وَيَذْكُرُونَهُ عَلَيْهِمَا وَعِنْدَهُمَا بِمَا هُوَ لَهُ أَهْلٌ مِنَ الذِّكْرِ، " فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ " فَلَا يَتَخَوَّفَنَّ الطَّوَافَ بِهِمَا، مِنْ أَجْلِ مَا كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَطُوفُونَ بِهِمَا مِنْ أَجْلِ الصَّنَمَيْنِ اللَّذَيْنِ كَانَا عَلَيْهِمَا، فَإِنَّ أَهْلَ الشِّرْكِ كَانُوا يَطُوفُونَ بِهِمَا كُفْرًا، وَأَنْتُمْ تَطُوفُونَ بِهِمَا إِيمَانًا، وَتَصْدِيقًا لِرَسُولِي، وَطَاعَةً لِأَمْرِي، فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي الطَّوَافِ بِهِمَا. وَالْجَنَاحُ، الْإِثْمُ، كَمَا:- حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ قَالَ، حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السَّدِّيِّ: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا}، يَقُولُ: لَيْسَ عَلَيْهِ إِثْمٌ، وَلَكِنْ لَهُ أَجْرٌ. وَبِمِثْلِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ تَظَاهَرَتِ الرِّوَايَةُ عَنِ السَّلَفِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنِ. ذِكْرُ الْأَخْبَارِ الَّتِي رُوِيَتَ بِذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكَ بْنِ أَبِي الشَّوَارِبِ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا دَاوُدُ، عَنِ الشَّعْبِيِّ: أَنَّ وَثَنًا كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ عَلَى الصَّفَا يُسَمَّى إِسَافًا، وَوَثَنًا عَلَى الْمَرْوَةِ يُسَمَّى نَائِلَةَ، فَكَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا طَافُوا بِالْبَيْتِ مَسَحُوا الْوَثَنَيْنِ. فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ وَكُسِرَتِ الْأَوْثَانُ، قَالَ الْمُسْلِمُونَ: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ إِنَّمَا كَانَ يُطَافُ بِهِمَا مِنْ أَجْلِ الْوَثَنَيْنِ، وَلَيْسَ الطَّوَافُ بِهِمَا مِنَ الشَّعَائِرِ! قَالَ: فَأَنـْزَلَ اللَّهُ: إِنَّهُمَا مِنَ الشَّعَائِرِ، " فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا ". حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ قَالَ، حَدَّثَنَا دَاوُدُ، عَنْ عَامِرٍ قَالَ: كَانَ صَنَمٌ بِالصَّفَا يُدْعَى إِسَافًا، وَوَثَنٌ بِالْمَرْوَةِ يُدْعَى نَائِلَةَ، ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ ابْنِ أَبِي الشَّوَارِبِ- وَزَادَ فِيهِ، قَالَ: فَذُكِّرَ الصَّفَا مِنْ أَجْلِ الْوَثَنِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ، وأُنِّثَ الْمَرْوَةُ مِنْ أَجْلِ الْوَثَنِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ مُؤَنَّثًا. حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، وَذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ ابْنِ أَبِي الشَّوَارِبِ عَنْ يَزِيدَ، وَزَادَ فِيهِ- قَالَ: فَجَعَلَهُ اللَّهُ تَطَوُّعَ خَيْرٍ. حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ قَالَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ قَالَ، أَخْبَرَنِي عَاصِمٌ الْأَحْوَلُ قَالَ، قُلْتُ لِأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أَكُنْتُمْ تَكْرَهُونَ الطَّوَافَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ حَتَّى نـَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ؟ فَقَالَ: نَعَمْ كُنَّا نَكْرَهُ الطَّوَافَ بَيْنَهُمَا لِأَنَّهُمَا مِنْ شَعَائِرِ الْجَاهِلِيَّةِ، حَتَّى نـَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ}. حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ سَهْلٍ الرَّمْلِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا مُؤَمَّلُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَاصِمٍ قَالَ، سَأَلْتُ أَنْسًا عَنِ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَقَالَ: كَانَتَا مِنْ مَشَاعِرِ الْجَاهِلِيَّةِ، فَلَمَّا كَانَ الْإِسْلَامُ أَمْسَكُوا عَنْهُمَا، فنـَزَلَتْ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ}. حَدَّثَنِي عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ عَبْدِ الْوَارِثِ قَالَ، حَدَّثَنِي أَبُو الْحُسَيْنِ الْمُعَلِّمُ قَالَ، حَدَّثَنَا شَيْبَانُ أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ جَابِرٍ الْجَعْفِي، عَنْ عَمْرِو بْنِ حَبَشِيٍّ قَالَ، قُلْتُ لِابْنِ عُمَرَ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} قَالَ، انْطَلِقَ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَاسْأَلْهُ، فَإِنَّهُ أَعْلَمُ مَنْ بَقِيَ بِمَا أُنْـزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَأَتَيْتُهُ فَسَأَلَتْهُ، فَقَالَ: إِنَّهُ كَانَ عِنْدَهُمَا أَصْنَامٌ، فَلَمَّا حُرِّمْنَ أَمْسَكُوا عَنِ الطَّوَافِ بَيْنَهُمَا، حَتَّى أُنْـزِلَتْ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا}. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا عبدُ اللهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ، حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ}، وَذَلِكَ أَنَّ نَاسًا كَانُوا يَتَحَرَّجُونَ أَنْ يَطُوفُوا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَأَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّهُمَا مِنْ شَعَائِرِهِ، وَالطَّوَافُ بَيْنَهُمَا أَحَبُّ إِلَيْهِ، فَمَضَتِ السُّنَّةُ بِالطَّوَافِ بَيْنَهُمَا. حَدَّثَنِي مُوسَى قَالَ، حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السَّدِّيِّ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} قَالَ، زَعَمَ أَبُو مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ شَيَاطِينُ تَعْزِفُ اللَّيْلَ أَجْمَعَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَكَانَتْ بَيْنَهُمَا آلِهَةٌ، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ وَظَهَرَ، قَالَ الْمُسْلِمُونَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَا نَطُوفُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَإِنَّهُ شِرْكٌ كُنَّا نَفْعَلُهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ! فَأَنـْزَلَ اللَّهُ: " فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا ". حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} قَالَ، قَالَتِ الْأَنْصَارُ: إِنَّ السَّعْيَ بَيْنَ هَذَيْنَ الْحَجَرَيْنِ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ! فَأَنـْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ}. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ نَحْوَهُ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} قَالَ، كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ قَدْ وَضَعُوا عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَنَمًا يُعَظِّمُونَهُمَا، فَلَمَّا أَسْلَمَ الْمُسْلِمُونَ كَرِهُوا الطَّوَافَ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ لِمَكَانِ الصَّنَمَيْنِ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا}، وَقَرَأَ: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [سُورَةُ الْحَجِّ: 32]، وَسَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الطَّوَافَ بِهِمَا. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ عَاصِمٍ قَالَ، قُلْتُ لِأَنَسٍ: الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ، أَكُنْتُمْ تَكْرَهُونَ أَنْ تَطُوفُوا بِهِمَا مَعَ الْأَصْنَامِ الَّتِي نُهِيتُمْ عَنْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، حَتَّى نـَزَلَتْ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ}. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ قَالَ، أَخْبَرَنَا عَاصِمٌ قَالَ، سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَة مِنْ مَشَاعِرِ قُرَيْشٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَلَمَّا كَانَ الْإِسْلَامُ تَرْكَنَاهُمَا. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ أَنْـزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ هَذِهِ الْآيَةَ، فِي سَبَبِ قَوْمٍ كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَا يَسْعَوْنَ بَيْنَهُمَا، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ تَخَوَّفُوا السَّعْيَ بَيْنَهُمَا كَمَا كَانُوا يتخوَّفُونَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} الْآيَةَ، فَكَانَ حَيٌّ مِنْ تِهَامَةَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَا يَسْعَوْنَ بَيْنَهُمَا، فَأَخْبَرَهُمُ اللَّهُ أَنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ، وَكَانَ مِنْ سُنَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلََ الطَّوَافُ بَيْنَهُمَا. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ، كَانَ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ تِهَامَةَ لَا يَطُوفُونَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَأَنـْزَلَ اللَّهُ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ}. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا عبدُ اللهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ، حَدَّثَنِي اللَّيْثُ قَالَ، حَدَّثَنِي عَقِيلٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ، حَدَّثَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ قَالَ، سَأَلْتُ عَائِشَة فقُلْتُ لَهَا: أَرَأَيْتِ قَوْلَ اللَّهِ: " إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمِنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا "؟ وَقُلْتُلِ عَائِشَة: وَاللَّهِ مَا عَلَى أَحَدٍ جَنَاحٌ أَنْ لَا يَطَّوَّفَ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ؟ فَقَالَتْ عَائِشَة: بِئْسَ مَا قُلْتَ يَا ابْنَ أُخْتِي، إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَوْ كَانَتْ كَمَا أَوَّلْتَهَا كَانَتْ: لَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَطَّوَّفَ بِهِمَا، وَلَكِنَّهَا إِنَّمَا أُنْـزِلَتْ فِي الْأَنْصَارِ: كَانُوا قَبْلَ أَنْ يُسْلِمُوا يُهلُّونَ لِمَنَاةَ، الطَّاغِيَةَ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَ بِالْمُشَلَّلِ، وَكَانَ مِنْ أَهَلَّ لَهَا يَتَحَرَّجُ أَنْ يَطُوفَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَلَمَّا سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ- فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِذَا كُنَّا نَتَحَرَّجُ أَنْ نَطُوفَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ- أَنْـزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمِنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا ". قَالَتْ عَائِشَة: ثُمَّ قَدْ سَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الطَّوَافَ بَيْنَهُمَا، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَتْرُكَ الطَّوَافَ بَيْنَهُمَا. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزَّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَة قالَتْ: كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأَنْصَارِ مِمَّنْ يُهِلُّ لِمَنَاةَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ- وَ " مَنَاةُ " صَنَمٌ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ- قَالُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، إِنَّا كُنَّا لَا نَطُوفُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ تَعْظِيمًا لِمَنَاةَ، فَهَلْ عَلَيْنَا مِنْ حَرَجٍ أَنْ نَطُوفَ بِهِمَا؟ فَأَنـْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جَنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا}. قَالَ عُرْوَةُ: فَقُلْتُ لِعَائِشَة: مَا أُبَالِي أَنْ لَا أَطُوفَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ! قَالَ اللَّهُ: " فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ ". قَالَتْ: يَا ابْنَ أُخْتِي، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَقُولُ: " إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ "! قَالَ الزُّهْرِيُّ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِأَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ فَقَالَ: هَذَا الْعِلْمُ! قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَلَقَدْ سَمِعْتُ رِجَالًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُونَ: لَمَّا أَنْـزَلَ اللَّهُ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ وَلَمْ يُنـزِلِ الطَّوَافَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، قِيلَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّا كُنَّا نَطُوفُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَإِنَّ اللَّهَ قَدْ ذَكَرَ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ وَلَمْ يَذْكُرْ الطَّوَافَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَهَلْ عَلَيْنَا مَنْ حَرَجٍ أَنْ لَا نَطُوفَ بِهِمَا؟ فَأَنـْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} الْآيَةَ كُلَّهَا، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَأَسْمَعُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نـَزَلَتْ فِي الْفَرِيقَيْنِ كِلَيْهِمَا، فِيمَنْ طَافَ وَفِيمَنْ لَمْ يَطُفْ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: كَانَ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ تِهَامَةَ لَا يَطُوفُونَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَأَنـْزَلَ اللَّهُ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ قَدْ جَعَلَ الطَّوَافَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ، كَمَا جَعَلَ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ مِنْ شَعَائِرِهِ. فَأَمَّا قَوْلُهُ: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا}، فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ قِيلَ لِكِلَا الْفَرِيقَيْنِ اللَّذَيْنِ تَخَوَّفَ بَعْضُهُمُ الطَّوَّافَ بِهِمَا مِنْ أَجْلِ الصَّنَمَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرَهُمَا الشَّعْبِيُّ، وَبَعْضُهُمْ مِنْ أَجْلِ مَا كَانَ مِنْ كَرَاهَتِهِمُ الطَّوَافَ بِهِمَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَة. وَأَيُّ الْأَمْرَيْنِ كَانَ مِنْ ذَلِكَ، فَلَيْسَ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} الْآيَةَ، دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ عَنَى بِهِ وَضْعَ الْحَرَجِ عَمَّنْ طَافَ بِهِمَا، مِنْ أَجْلِ أَنَّ الطَّوَافَ بِهِمَا كَانَ غَيْرَ جَائِزٍ بِحَظْرِ اللَّهِ ذَلِكَ، ثُمَّ جُعِلَ الطَّوَافُ بِهِمَا رُخْصَةً، لِإِجْمَاعِ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ لَمْ يَحْظُرْ ذَلِكَ فِي وَقْتٍ، ثُمَّ رَخَّصَ فِيهِ بِقَوْلِهِ: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا}. وَإِنَّمَا الِاخْتِلَافُ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَوْجُهٍ. فَرَأَى بَعْضُهُمْ أَنَّ تَارِكَ الطَّوَافِ بَيْنَهُمَا تَارِكٌ مِنْ مَنَاسِكِ حَجِّهِ مَا لَا يُجْزِيهِ مِنْهُ غَيْرُ قَضَائِهِ بِعَيْنِهِ، كَمَا لَا يُجْزِي تَارِكَ الطَّوَافِ- الَّذِي هُوَ طَوَافُ الْإِفَاضَةِ- إِلَّا قَضَاؤُهُ بِعَيْنِهِ. وَقَالُوا: هُمَا طَوَافَانِ: أَمَرَ اللَّهُ بِأَحَدِهِمَا بِالْبَيْتِ، وَالْآخَرُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ. وَرَأَى بَعْضُهُمْ أَنَّ تَارِكَ الطَّوَافِ بِهِمَا يُجْزِيهِ مِنْ تَرْكِهِ فِدْيَةٌ، وَرَأَوْا أَنَّحُكْمَ الطَّوَافِبِهِمَا حُكْمُ رَمْيِ بَعْضِ الْجَمَرَاتِ، وَالْوُقُوفِ بِالْمِشْعَرِ، وَطَوَافِ الصَّدْرِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، مِمَّا يُجْزِي تَارِكَهُ مِنْ تَرْكِهِ فِدْيَةٌ، وَلَا يُلْزِمُهُ الْعَوْدَ لِقَضَائِهِ بِعَيْنِهِ. وَرَأَى آخَرُونَ أَنَّ الطَّوَافَ بِهِمَا تَطَوُّعٌ، إِنْ فَعَلَهُ صَاحِبُهُ كَانَ مُحْسِنًا، وَإِنْ تَرَكَهُ تَارِكٌ لَمْ يُلْزِمْهُ بِتَرْكِهِ شَيْءٌ. ذَكَرُ مَنْ قَالَ: إِنَّ السَّعْيَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِوَاجِبٌ وَلَا يُجْزِي مِنْهُ فَدِيَةٌ، وَمَنْ تَرَكَهُ فَعَلَيْهِ الْعَوْدُ. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَة قالَتْ: لَعَمْرِي مَا حَجَّ مَنْ لَمْ يَسْعَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، لِأَنَّ اللَّهَ قَالَ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ}. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، قَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ: مَنْنَسِيَ السَّعْيَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ حَتَّى يَسْتَبْعِدَ مِنْ مَكَّةَ، فَلْيَرْجِعْ فَلْيَسْعَ، وَإِنْ كَانَ قَدْ أَصَابَ النِّسَاءَ فَعَلَيْهِ الْعُمْرَةُ وَالْهَدْيُ. وَكَانَ الشَّافِعِيُّ يَقُولُ: عَلَى مَنْ تَرَكَ السَّعْيَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ حَتَّى رَجَعَ إِلَى بَلَدِهِ، الْعُودُ إِلَى مَكَّةَ حَتَّى يَطُوفَ بَيْنَهُمَا، لَا يُجْزِيهِ غَيْرُ ذَلِكَ. حَدَّثْنَا بِذَلِكَ عَنْهُ الرَّبِيعُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ: يُجْزِي مِنْهُ دَمٌ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ عَوْدٌ لِقَضَائِهِ. قَالَ الثَّوْرِيُّ بِمَا:- حَدَّثَنِي بِهِ عَلِيُّ بْنُ سَهْلٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَبِي الزَّرْقَاءِ، عَنْهُ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدُ: إِنْ عَادَ تَارِكُ الطَّوَافَ بَيْنَهُمَا لِقَضَائِهِ فَحَسَنٌ، وَإِنْ لَمْ يَعُدْ فَعَلَيْهِ دَمٌ. ذِكْرُ مَنْ قَالَ: الطَّوَافُ بَيْنَهُمَا تَطَوُّعٌ، وَلَا شَيْءَ عَلَى مَنْ تَرَكَهُ، وَمَنْ كَانَ يَقْرَأُ: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَطَّوَّفَ بِهِمَا}. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ، حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ، قَالَ عَطَاءٌ: لَوْ أَنَّ حَاجًّا أَفَاضَ بَعْدَمَا رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ، فَطَافَ بِالْبَيْتِ وَلَمْ يَسَعَ، فَأَصَابَهَا- يَعْنِي: امْرَأَتَهُ- لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ، لَا حَجٌّ وَلَا عُمْرَةٌ، مِنْ أَجْلِ قَوْلِ اللَّهِ فِي مُصْحَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ: " فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَطَّوَّفَ بِهِمَا ". فَعَاوَدْتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَقُلْتُ: إِنَّهُ قَدْ تَرَكَ سُنَّةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: أَلَا تَسْمَعُهُ يَقُولُ: {فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا}، فَأَبَى أَنْ يَجْعَلَ عَلَيْهِ شَيْئًا؟ حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْمَلِكَ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} الْآيَةَ " فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَطَّوَّفَ بِهِمَا ". حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ سَهْلٍ قَالَ، حَدَّثَنَا مُؤَمَّلٌ قَالَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَاصِمٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا يَقُولُ: الطَّوَافُ بَيْنَهُمَا تَطَوُّعٌ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ قَالَ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ قَالَ، أَخْبَرَنَا عَاصِمٌ الْأَحْوَلُ قَالَ، قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: هُمَا تَطُّوُعٌ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ نَحْوَهُ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} قَالَ، فَلَمْ يُحَرِّجْ مَنْ لَمْ يَطُفْ بِهِمَا. حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ، عَنْ عِيسَى بْنِ قَيْسٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ عبدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: هُمَا تُطَوِّعٌ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ عَاصِمٍ قَالَ: قُلْتُ لِأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: السَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ تَطَوُّعٌ؟ قَالَ: تَطَوُّعٌ. وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا أَنَّ الطَّوَافَ بِهِمَا فَرْضٌ وَاجِبٌ، وَأَنَّ عَلَى مَنْ تَرَكَهُ الْعَوْدَ لِقَضَائِهِ، نَاسِيًا كَانَ، أَوْ عَامِدًا. لِأَنَّهُ لَا يُجْزِيهِ غَيْرُ ذَلِكَ، لِتَظَاهُرِ الْأَخْبَارِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ حَجَّ بِالنَّاسِ، فَكَانَ مِمَّا عَلَّمَهُمْ مِنْ مَنَاسِكِ حَجِّهِمُ الطَّوَافُ بِهِمَا.
ذِكْرُ الرِّوَايَةِ عَنْهُ بِذَلِكَ: حَدَّثَنِي يُوسُفُ بْنُ سَلْمَانَ قَالَ، حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ، حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: لَمَّا دَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الصَّفَا فِي حَجِّهِ قَالَ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ}، ابْدَؤُوا بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِذِكْرِهِ. فَبَدَأَ بِالصَّفَا فِرَقِيَ عَلَيْهِ. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ، حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ مَيْمُونٍ أَبُو الْحَسَنِ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ، عَنِ ابْنِ عَطَاءٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ}، فَأَتَى الصَّفَا فَبَدَأَ بِهَا، فَقَامَ عَلَيْهَا، ثُمَّ أَتَى الْمَرْوَةَ فَقَامَ عَلَيْهَا، وَطَافَ وَسَعَى. فَإِذْ كَانَ صَحِيحًا بِإِجْمَاعِ الْجَمِيعِ مِنَ الْأُمَّةِ- أَنَّ الطَّوَافَ بِهِمَا عَلَى تَعْلِيمِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَّتَهُ فِي مَنَاسِكِهِمْ، وَعَمَلِهِ فِي حَجِّهِ وَعُمْرَتِهِ وَكَانَ بَيَانُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُمَّتِهِ جُمَلَ مَا نَصَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ، وَفَرَضَهُ فِي تَنْـزِيلِهِ، وَأَمَرَ بِهِ مِمَّا لَمْ يُدْرَكْ عِلْمُهُ إِلَّا بِبَيَانِهِ، لَازِمًا الْعَمَلُ بِهِ أَمَتَّهُ، كَمَا قَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِنَا " كِتَابِ الْبَيَانِ عَنْ أُصُولِ الْأَحْكَامِ "- إِذَا اخْتَلَفَتِ الْأُمَّةُ فِي وُجُوبِهِ، ثُمَّ كَانَ مُخْتَلِفًا فِي الطَّوَافِ بَيْنَهُمَا: هَلْ هُوَ واجِبٌ أَوْ غَيْرُ وَاجِبٍ كَانَ بَيِّنًا وُجُوبُ فَرْضِهِ عَلَى مَنْ حَجَّ أَوِ اعْتَمَرَ، لِمَا وَصَفْنَا. وَكَذَلِكَ وُجُوبُالْعَوْدِ لِقَضَاءِ الطَّوَافِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ- لِمَا كَانَ مُخْتَلَفًا فِيمَا عَلَى مَنْ تَرَكَهُ، مَعَ إِجْمَاعِ جَمِيعِهِمْ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَّمَهُ أُمَّتَهُ فِي حَجِّهِمْ وَعُمْرَتِهِمْ إِذْ عَلَّمَهُمْ مَنَاسِكَ حَجِّهِمْ- كَمَا طَافَ بِالْبَيْتِ وَعَلَّمَهُ أُمَّتَهُ فِي حَجِّهِمْ وَعُمْرَتِهِمْ، إِذْ عَلَّمَهُمْ مَنَاسِكَ حَجِّهِمْ وَعُمْرَتِهِمْ- وَأَجْمَعَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ لَا تُجْزِي مِنْهُ فَدِيَةٌ وَلَا بَدَلٌ، وَلَا يُجْزِي تَارِكَهُ إِلَّا الْعُودُ لِقَضَائِهِ كَانَ نَظِيرًا لَهُ الطَّوَافُ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَلَا تُجْزِي مِنْهُ فِدْيَةٌ وَلَا جَزَاءٌ، وَلَا يُجْزِي تَارِكَهُ إِلَّا الْعُودُ لِقَضَائِهِ، إِذْ كَانَا كِلَاهُمَا طَوَافِينَ: أَحَدُهُمَا بِالْبَيْتِ، وَالْآخِرُ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ. وَمَنْ فَرَّقَ بَيْنَ حُكْمِهِمَا عُكِسَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ فِيهِ، ثُمَّ سُئِلَ الْبُرْهَانَ عَلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا. فَإِنِ اعْتَلَّ بِقِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ: " فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَطَّوَّفَ بِهِمَا ". قِيلَ: ذَلِكَ خِلَافُ مَا فِي مَصَاحِفِ الْمُسْلِمِينَ، غَيْرُ جَائِزٍ لِأَحَدٍ أَنْ يَزِيدَ فِي مَصَاحِفِهِمْ مَا لَيْسَ فِيهَا. وَسَوَاءٌ قَرَأَ ذَلِكَ كَذَلِكَ قَارِئٌ، أَوْ قَرَأَ قَارِئٌ: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [سُورَةُ الْحَجِّ: 29]، " فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يَطَّوَّفُوا بِهِ ". فَإِنْ جَازَتْ إِحْدَى الزِّيَادَتَيْنِ اللَّتَيْنِ لَيْسَتَا فِي الْمُصْحَفِ، كَانَتِ الْأُخْرَى نَظِيرَتَهَا، وَإِلَّا كَانَ مُجِيزُ إِحْدَاهِمَا- إِذَا مَنَعَ الْأُخْرَى- مُتَحَكِّمًا، وَالتَّحَكُّمُ لَا يَعْجِزُ عَنْهُ أَحَدٌ. وَقَدْ رُوِيَ إِنْكَارُ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ، وَأَنْ يَكُونَ التَّنْـزِيلُ بِهَا، عَنْ عَائِشَة َ. حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، أَخْبَرَنِي مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قُلْتُلِ عَائِشَة زوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَا يَوْمَئِذٍ حَدِيثُ السِّنِّ: أَرَأَيْتَ قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا}، فَمَا نَرَى عَلَى أَحَدٍ شَيْئًا أَنْ لَا يَطَّوَّفَ بِهِمَا! فَقَالَتْ عَائِشَة: كَلَّا! لَوْ كَانَتْ كَمَا تَقُولُ، كَانَتْ: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَطَّوَّفَ بِهِمَا}، إِنَّمَا أُنْـزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الْأَنْصَارِ، كَانُوا يُهلُّونَ لِمَنَاةَ- وَكَانَتْ مَنَاةُ حَذْوَ قَدِيدٍ-، وَكَانُوا يَتَحَرَّجُونَ أَنْ يَطُوفُوا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ. فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ، سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ، فَأَنـْزَلَ اللَّهُ: " إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا ". قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَقَدْ يَحْتَمِلُ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ: " فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَطَّوَّفَ بِهِمَا"، أَنْ تَكُونَ " لَا " الَّتِي مَعَ " أَنْ"، صِلَةً فِي الْكَلَامِ، إِذْ كَانَ قَدْ تَقَدَّمَهَا جَحْدٌ فِي الْكَلَامِ قَبْلَهَا، وَهُوَ قَوْلُهُ: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ}، فَيَكُونُ نَظِيرَ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [سُورَةُ الْأَعْرَافِ: 12]، بِمَعْنَى مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ، وَكَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: مَـا كَـانَ يَـرْضَى رَسُولُ اللَّهِ فِعْلَهُمَا *** والطَّيِّبَـانِ أبُـو بَكْـرٍ وَلَا عُمَـرُ وَلَوْ كَانَ رَسْمُ الْمُصْحَفِ كَذَلِكَ، لَمْ يَكُنْ فِيهِ لِمُحْتَجٍّ حُجَّةٌ، مَعَ احْتِمَالِ الْكَلَامِ مَا وَصَفْنَا. لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا عَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَّتَهُ فِي مَنَاسِكِهِمْ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَلِدَلَالَةِ الْقِيَاسِ عَلَى صِحَّتِهِ، فَكَيْفَ وَهُوَ خِلَافُ رُسُومِ مَصَاحِفِ الْمُسْلِمِينَ، وَمِمَّا لَوْ قَرَأَهُ الْيَوْمَ قَارِئٌ كَانَ مُسْتَحِقًّا الْعُقُوبَةَ لِزِيَادَتِهِ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَا لَيْسَ مِنْهُ؟
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: اخْتَلَفَ القَرَأَةُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ: " وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا " عَلَى لَفْظِ الْمُضِيِّ بِـ " التَّاء " وَفَتَحِ " الْعَيْنِ ". وَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْكُوفِيِّينَ: " وَمَنْ يَطَّوَّعْ خَيْرًا " بِـ " الْيَاء " وَجَزْمِ " الْعَيْنِ " وَتَشْدِيدِ " الطَّاءِ"، بِمَعْنَى: وَمَنْ يَتَطَوَّعْ. وَذُكِرَ أَنَّهَا فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ: " وَمَنْ يَتَطَوَّعْ"، فَقَرَأَ ذَلِكَ قُرَّاءُ أَهْلِ الْكُوفَةِ، عَلَى مَا وَصَفْنَا، اعْتِبَارًا بِالَّذِي ذَكَرْنَا مِنْ قِرَاءَةِ عَبْدِ اللهِ- سِوَى عَاصِمٍ، فَإِنَّهُ وَافَقَ الْمَدَنِيِّينَ- فَشَدَّدُوا " الطَّاء " طَلَبًا لِإِدْغَامِ " التَّاءِ " فِي " الطَّاءِ ". وَكِلْتَا الْقِرَاءَتَيْنِ مَعْرُوفَةٌ صَحِيحَةٌ، مُتَّفَقٌ مَعْنَيَاهُمَا غَيْرُ مُخْتَلِفِينَ- لِأَنَّ الْمَاضِيَ مِنَ الْفِعْلِ مَعَ حُرُوفِ الْجَزَاءِ بِمَعْنَى الْمُسْتَقْبَلِ. فَبِأَيِّ الْقِرَاءَتَيْنِ قَرَأَ ذَلِكَ قَارِئٌ فَمُصِيبٌ. [وَالصَّوَابُ عِنْدَنَا فِي ذَلِكَ، أَنَّ] مَعْنَى ذَلِكَ: وَمَنْ تَطَوَّعَ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ بَعْدَ قَضَاءِ حَجَّتِهِ الْوَاجِبَةِ عَلَيْهِ، فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ لَهُ عَلَى تَطَوُّعِهِ لَهُ بِمَا تَطَوَّعَ بِهِ مِنْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِهِ، فَمُجَازِيهِ بِهِ، عَلِيمٌ بِمَا قَصَدَ وَأَرَادَ بتطُّوعِهِ بِمَا تَطَوَّعَ بِهِ. وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّ الصَّوَابَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: " فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا " هُوَ مَا وَصَفْنَا، دُونَ قَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ مَعْنِيٌّ بِهِ: فَمَنْ تَطَوَّعَ بِالسَّعْي وَالطَّوَافِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، لِأَنَّ السَّاعِيَ بَيْنَهُمَا لَا يَكُونُ مُتَطَوِّعًا بِالسَّعْي بَيْنَهُمَا، إِلَّا فِي حَجِّ تَطَوُّعٍ أَوْ عُمْرَةِ تَطَوُّعٍ، لِمَا وَصَفْنَا قَبْلُ. وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ كَانَ مَعْلُومًا أَنَّهُ إِنَّمَا عَنَى بِالتَّطَوُّعِ بِذَلِكَ، التطُّوعَ بِمَا يَعْمَلُ ذَلِكَ فِيهِ مِنْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ. وَأَمَّا الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّ الطَّوَافَ بِهِمَا تَطَوُّعٌ لَا وَاجِبٌ، فَإِنَّ الصَّوَابَ أَنْ يَكُونَ تَأْوِيلُ ذَلِكَ عَلَى قَوْلِهِمْ: فَمَنْ تَطَوَّعَ بِالطَّوَافِ بِهِمَا، فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ لِأَنَّ لِلْحَاجِّ وَالْمُعْتَمِرِ عَلَى قَوْلِهِمُ الطَّوَافَ بِهِمَا إِنْ شَاءَ، وَتَرْكَ الطَّوَافِ. فَيَكُونُ مَعْنَى الْكَلَامِ عَلَى تَأْوِيلِهِمْ: فَمَنْ تَطَوَّعَ بِالطَّوَافِ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ تَطَوُّعَهُ ذَلِكَ عَلِيمٌ بِمَا أَرَادَ وَنَوَى الطَّائِفُ بِهِمَا كَذَلِكَ، كَمَا:- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ {وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} قَالَ، مَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ، تَطَوَّعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَتْ مِنَ السُّنَنِ. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: وَمَنْ تَطَوَّعُ خَيْرًا فَاعْتَمَرَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: {وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ}، مَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَاعْتَمَرَ فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ. قَالَ: فَالْحَجُّ فَرِيضَةٌ، وَالْعُمْرَةُ تَطَوُّعٌ، لَيْسَتِ الْعُمْرَةُ وَاجِبَةً عَلَى أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْـزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِقَوْلِهِ: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْـزَلْنَا منَ الْبَيِّنَاتِ}، عُلَمَاءَ الْيَهُودِ وَأَحْبَارَهَا، وَعُلَمَاءَ النَّصَارَى، لِكِتْمَانِهِمُ النَّاسَ أَمْرَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَرَكِهُمْ اتِّبَاعَهُ وَهُمْ يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ. وَ " الْبَيِّنَاتِ " الَّتِي أَنْـزَلَهَا اللَّهُ: مَا بَيَّنَ مِنْ أَمْرِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَبْعَثِهِ وَصِفَتِهِ، فِي الْكِتَابَيْنِ اللَّذَيْنِ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَنَّ أَهْلَهُمَا يَجِدُونَ صِفَتَهُ فِيهِمَا. وَيَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِـ " الْهُدَى " مَا أَوْضَحَ لَهُمْ مِنْ أَمْرِهِ فِي الْكُتُبِ الَّتِي أَنْـزَلَها عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ، فَقَالَ تَعَالَى ذِكْرُهُ: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ النَّاسَ الَّذِي أَنْـزَلَنا فِي كُتُبِهِمْ مِنَ الْبَيَانِ مِنْ أَمْرِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنُبُوَّتِهِ، وَصِحَّةِ الْمِلَّةِ الَّتِي أَرْسَلَتْهُ بِهَا وَحَقِّيَّتَهَا، فَلَا يُخْبِرُونَهُمْ بِهِ، وَلَا يُعْلِنُونَ مِنْ تَبْيِينِي ذَلِكَ لِلنَّاسِ وَإِيضَاحِهِ لَهُمْ، فِي الْكِتَابِ الَّذِي أَنْـزَلْتُهُ إِلَى أَنْبِيَائِهِمْ، {أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} الْآيَةَ. كَمَا: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ، وَحَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ- وَحَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ- قَالَا جَمِيعًا، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ، حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، أَوْ عِكْرِمَةُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سَأَلَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ أَخُو بَنَى سَلَمَةَ، وَسَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ أَخُو بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ، وَخَارِجَةُ بْنُ زَيْدٍ أَخُو بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، نَفَرًا مِنْ أَحْبَارِ يَهُودَ- قَالَ أَبُو كُرَيْبٍ: عَمَّا فِي التَّوْرَاةِ، وَقَالَ ابْنُ حُمَيْدٍ: عَنْ بَعْضِ مَا فِي التَّوْرَاةِ- فَكَتَمُوهُمْ إِيَّاهُ، وَأَبَوْا أَنْ يُخْبِرُوهُمْ عَنْهُ، فَأَنـْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ فِيهِمْ: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْـزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ}. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْـزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى} قَالَ، هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنِ الرَّبِيعِ فِي قَوْلِهِ: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْـزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى} قَالَ، كَتَمُوا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُمْ يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ، فَكَتَمُوهُ حَسَدًا وَبَغْيًا. حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ: قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْـزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ}، أُولَئِكَ أَهْلُ الْكِتَابِ، كَتَمُوا الْإِسْلَامَ وَهُوَ دِينُ اللَّهِ، وَكَتَمُوا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُمْ يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ. حَدَّثَنِي مُوسَى قَالَ، حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السَّدِّيِّ {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْـزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مَنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ}، زَعَمُوا أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْيَهُودِ كَانَ لَهُ صَدِيقٌ مِنَ الْأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ ثَعْلَبَةُ بْنُ غَنْمَةَ، قَالَ لَهُ: هَلْ تَجِدُونَ مُحَمَّدًا عِنْدَكُمْ؟ قَالَ: لَا! قَالَ: مُحَمَّدٌ: " الْبَيِّنَاتُ ".
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ}. [قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: {مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَاهُ لِلنَّاسِ}، بَعْضَ النَّاسِ، لِأَنَّ الْعِلْمَ بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَفَتِهِ وَمَبْعَثِهِ لَمْ يَكُنْ إِلَّا عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ دُونَ غَيْرِهِمْ، وَإِيَّاهُمْ عَنَى تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: {لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ}، وَيَعْنِي بِذَلِكَ: التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ. وَهَذِهِ الْآيَةُ وَإِنْ كَانَتْ نـَزَلَتْ فِي خَاصٍّ مِنَ النَّاسِ، فَإِنَّهَا مَعْنِيٌّ بِهَا كُلُّ كَاتِمٍ عِلْمًا فَرَضَ اللَّهُ تَعَالَى بَيَانَهُ لِلنَّاسِ. وَذَلِكَ نَظِيرُ الْخَبَرِ الَّذِي رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ «مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ يَعْلَمُهُ فَكَتَمَهُ، أُلْجِمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ». وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَقُولُ مَا:- حَدَّثَنَا بِهِ نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَهْضَمِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ وَرْدَانَ قَالَ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ السَّخْتِيَانِيُّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، لَوْلَا آيَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مَا حَدَّثَتْكُمْ! وَتَلَا {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْـزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ}. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو زَرْعَةَ وَهْبُ اللَّهِ بْنُ رَاشِدٍ، عَنْ يُونُسَ قَالَ، قَالَ ابْنُ شِهَابٍ، قَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: لَوْلَا آيَتَانِ أَنْـزَلَهُمَا اللَّهُ فِي كِتَابِهِ مَا حَدَّثْتُ شَيْئًا: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْـزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ} إِلَى آخَرِ الْآيَةِ، وَالْآيَةُ الْأُخْرَى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ} إِلَى آخَرِ الْآيَةِ [سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ: 178].
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: {أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ)، هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنـْزَلَهُ اللَّهُ مَنْ أَمْرِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصِفَتِهِ وَأَمْرِ دِينِهِِ، أَنَّهُ الْحُقُّ- مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَهُ اللَّهُ لَهُمْ فِي كُتُبِهِمْ- يَلْعَنُهُمْ بِكِتْمَانِهِمْ ذَلِكَ، وَتَرْكِهِمْ تَبْيِينَهُ لِلنَّاسِ. وَ" اللَّعْنَةُ " الفَعْلَةُ، مِنْ " لَعَنَهُ اللَّه " بِمَعْنَى أَقْصَاهُ وَأَبْعَدَهُ وَأَسْحَقَهُ. وَأَصْلُ " اللَّعْنِ ": الطَّرْدُ، كَمَا قَالَ الشَّمَّاخُ بْنُ ضِرَارٍ، وَذَكَرَ مَاءً وَرَدَ عَلَيْهِ: ذَعَـرْتُ بِـهِ القَطَـا وَنَفَيْـتُ عَنْـهُ *** مَقَـامَ الـذِّئْبِ كَـالرَّجُلِ اللَّعِيـنِ يَعْنِي: مَقَامَ الذِّئْبِ الطَّرِيدِ. وَ " اللَّعِينِ " مِنْ نَعْتِ الذِّئْبِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ: مَقَامَ الذِّئْبِ الطَّرِيدِ وَاللَّعِينِ كَالرَّجُلِ. فَمَعْنَى الْآيَةِ إذًا: أُولَئِكَ يُبْعِدُهُمُ اللَّهُ مِنْهُ وَمِنْ رَحْمَتِهِ، وَيَسْأَلُ رَبَّهُمُ اللَّاعِنُونَ أَنْ يَلْعَنَهُمْ، لِأَنَّ لَعْنَةَ بَنِي آدَمَ وَسَائِرِ خَلْقِ اللَّهِ مَا لَعَنُوا أَنْ يَقُولُوا: " اللَّهُمَّ الْعَنْهُ " إِذْ كَانَ مَعْنَى " اللَّعْن " هُوَ مَا وَصَفْنَا مِنَ الْإِقْصَاءِ وَالْإِبْعَادِ. وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّ لَعْنَةَ اللَّاعِنِينَ هِيَ مَا وَصَفْنَا: مِنْ مَسْأَلَتِهِمْ رَبَّهُمْ أَنْ يَلْعَنَهُمْ، وَقَوْلِهِمْ: " لَعَنَهُ اللَّهُ " أَوْ " عَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ)، لِأَنَّ:- مُحَمَّدَ بْنَ خَالِدِ بْنِ خِدَاشٍ وَيَعْقُوبَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَانِي قَالَا حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُلَيَّةَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: {أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ}، الْبَهَائِمُ، قَالَ: إِذَا أَسْنَتَتِ السَّنَةُ، قَالَتِ الْبَهَائِمُ: هَذَا مِنْ أَجْلِ عُصَاةِ بَنِي آدَمُ، لَعَنَ اللَّهُ عُصَاةَ بَنِي آدَمَ! ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِيمَنْ عَنَى اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ بـِ " اللَّاعِنِينَ ". فَقَالَ بَعْضُهُمْ: عَنَى بِذَلِكَ دَوَابَّ الْأَرْضِ وَهَوَامَّهَا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: تَلْعَنُهُمْ دَوَابُّ الْأَرْضِ، وَمَا شَاءَ اللَّهُ مِنَ الْخَنَافِسِ وَالْعَقَارِبِ تَقُولُ: نُمْنَعَ الْقَطْرَ بِذُنُوبِهِمْ. حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ قَالَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: " أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ " قَالَ، دَوَابُّ الْأَرْضِ، الْعَقَارِبُ وَالْخَنَافِسُ، يَقُولُونَ: مُنِعْنَا الْقَطْرَ بِخَطَايَا بَنِي آدَمَ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا حَكَّامُ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: " وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ " قَالَ، تَلْعَنُهُمُ الْهَوَامُّ وَدَوَابُّ الْأَرْضِ، تَقُولُ: أُمْسِكَ الْقَطْرُ عَنَّا بِخَطَايَا بَنِي آدَمَ. حَدَّثَنَا مُشْرِفُ بْنُ أَبَانَ الْحَطَّابُ الْبَغْدَادِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ خُصَيْفٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ: {أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} قَالَ، يَلْعَنُهُمْ كُلُّ شَيْءٍ حَتَّى الْخَنَافِسُ وَالْعَقَارِبُ، يَقُولُونَ: مُنِعْنَا الْقَطْرَ بِذُنُوبِ بَنِي آدَمَ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: " وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ " قَالَ، اللَّاعِنُونَ: الْبَهَائِمُ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: {وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ}، الْبَهَائِمُ، تَلْعَنُ عُصَاةَ بَنِي آدَمَ حِينَ أَمْسَكَ اللَّهُ عَنْهُمْ بِذُنُوبِ بَنِي آدَمَ الْمَطَرَ، فَتَخْرُجُ الْبَهَائِمُ فَتَلْعَنُهُمْ. حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، أَخْبَرَنِي مُسْلِمُ بْنُ خَالِدٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: {أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ}، الْبَهَائِمُ: الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ، فَتَلْعَنُ عُصَاةَ بَنِي آدَمَ إِذَا أَجْدَبَتِ الْأَرْضُ. فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ: وَمَا وَجْهُ الَّذِينَ وَجَّهُوا تَأْوِيلَ قَوْلِهِ: {وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ}، إِلَى أَنَّ اللَّاعِنِينَ هُمُ الْخَنَافِسُ وَالْعَقَارِبُ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ هَوَامِّ الْأَرْضِ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّهَا إِذَا جَمَعَتْ مَا كَانَ مِنْ نَوْعِ الْبَهَائِمِ وَغَيْرِ بَنِي آدَمَ، فَإِنَّمَا تَجْمَعُهُ بِغَيْرِ " الْيَاءِ وَالنُّونِ " وَغَيْرِ " الْوَاوِ وَالنُّونِ"، وَإِنَّمَا تَجْمَعُهُ بِـ " التَّاءِ"، وَمَا خَالَفَ مَا ذَكَرْنَا، فَتَقُولُ: " اللَّاعِنَات " وَنَحْوَ ذَلِكَ؟ قِيلَ: الْأَمْرُ وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ مِنْ شَأْنِ الْعَرَبِ إِذَا وَصَفَتْ شَيْئًا مِنَ الْبَهَائِمِ أَوْ غَيْرِهَا- مِمَّا حُكِمَ جَمْعُهُ أَنْ يَكُونَ بِ " التَّاءِ " وَبِغَيْرِ صُورَةِ جَمْعِ ذُكْرَانِ بَنِيَ آدَمَ- بِمَا هُوَ مِنْ صِفَةِ الْآدَمِيِّينَ، أَنْ يَجْمَعُوهُ جَمْعَ ذُكُورِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا} [سُورَةُ فُصِّلَتْ: 21]، فَأَخْرَجَ خِطَابَهُمْ عَلَى مِثَالِ خِطَابِ بَنِي آدَمَ، إِذْ كَلَّمَتْهُمْ وَكَلَّمُوهَا، وَكَمَا قَالَ: {يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ} [سُورَةُ النَّمْلِ: 18]، وَكَمَا قَالَ: {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [سُورَةُ يُوسُفَ: 4]. وَقَالَ آخَرُونَ: عَنَى اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: {وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ}، الْمَلَائِكَةَ وَالْمُؤْمِنِينَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: {وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ}، قَالَ، يَقُولُ: اللَّاعِنُونَ مِنْ مَلَائِكَةِ اللَّهِ وَمِنَ الْمُؤْمِنِينَ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: {وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ}، الْمَلَائِكَةُ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ قَالَ: {اللَّاعِنُونَ}، مِنْ مَلَائِكَةِ اللَّهِ وَالْمُؤْمِنِينَ. وَقَالَ آخَرُونَ: يَعْنِي بِاللَّاعِنِينَ، كُلَّ مَا عَدَا بَنِي آدَمَ وَالْجِنَّ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُوسَى قَالَ، حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السَّدِّيِّ: " وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ " قَالَ، قَالَ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ: إِنَّ الْكَافِرَ إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ أَتَتْهُ دَابَّةٌ كَأَنَّ عَيْنَيْهَا قِدْرَانِ مِنْ نُحَاسٍ، مَعَهَا عَمُودٌ مِنْ حَدِيدٍ، فَتَضْرِبُهُ ضَرْبَةً بَيْنَ كَتِفَيْهِ، فَيَصِيحُ، فَلَا يَسْمَعُ أَحَدٌ صَوْتَهُ إِلَّا لَعْنَهُ، وَلَا يُبْقَى شَيْءٌ إِلَّا سَمْعَ صَوْتَهُ، إِلَّا الثَّقَلَيْنِ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ. حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو زُهَيْرٍ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ فِي قَوْلِهِ: {أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} قَالَ، الْكَافِرُ إِذَا وُضِعَ فِي حُفْرَتِهِ، ضُرِبَ ضَرْبَةً بِمِطْرَقٍ فَيَصِيحُ صَيْحَةً، يَسْمَعُ صَوْتَهُ كُُلُّ شَيْءٍ إِلَّا الثَّقَلَيْنِ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ، فَلَا يَسْمَعُ صَيْحَتَهُ شَيْءٌ إِلَّا لَعَنَهُ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ بِالصِّحَّةِ عِنْدَنَا قَوْلُ مَنْ قَالَ: {اللَّاعِنُونَ}، الْمَلَائِكَةُ وَالْمُؤْمِنُونَ. لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ قَدْ وَصَفَ الْكَفَّارَ بِأَنَّ اللَّعْنَةَ الَّتِي تَحِلُّ بِهِمْ إِنَّمَا هِيَ مِنَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، فَقَالَ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ}، فَكَذَلِكَ اللَّعْنَةُ الَّتِي أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَنَّهَا حَالَّةٌ بِالْفَرِيقِ الْآخَرِ: الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْـزَلَ اللَّهُ مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَهُ لِلنَّاسِ، هِيَ لَعْنَةُ اللَّهِ، وَلَعْنَةُ الَّذِينَ أَخْبَرَ أَنَّ لَعْنَتَهُمْ حَالَّةٌ بِالَّذِينِ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ، وَهُمْ {اللَّاعِنُونَ}، لِأَنَّ الْفَرِيقَيْنِ جَمِيعًا أَهْلُ كُفْرٍ. وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ إِنَّ " اللَّاعِنِينَ " هُمُ الْخَنَافِسُ وَالْعَقَارِبُ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ دَبِيبِ الْأَرْضِ وَهَوَامِّهَا، فَإِنَّهُ قَوْلٌ لَا تُدْرِكُ حَقِيقَتَهُ إِلَّا بِخَبَرٍ عَنِ اللَّهِ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِهَا تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ، وَلَا خَبَرَ بِذَلِكَ عَنْ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ ذَلِكَ كَذَلِكَ. وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِيمَا قَالُوهُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الدَّلِيلَ مِنْ ظَاهِرِ كِتَابِ اللَّهِ مَوْجُودٌ بِخِلَافِ [قَوْلِ] أَهْلِ التَّأْوِيلِ، وَهُوَ مَا وَصَفْنَا. فَإِنْ كَانَ جَائِزًا أَنْ تَكُونَ الْبَهَائِمُ وَسَائِرُ خَلْقِ اللَّهِ، تَلْعَنُ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْـزَلَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ مِنْ صِفَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَعْتِهِ وَنُبُوَّتِهِ، بَعْدَ عِلْمِهِمْ بِهِ، وَتَلْعَنُ مَعَهُمْ جَمِيعَ الظَّلَمَةِ- فَغَيْرُ جَائِزٍ قَطْعُ الشَّهَادَةِ فِي أَنَّ اللَّهَ عَنَى بِ " اللَّاعِنِينَ " الْبَهَائِمَ وَالْهَوَامَّ وَدَبِيبَ الْأَرْضِ، إِلَّا بِخَبَرٍ لِلْعُذْرِ قَاطِعٌ. وَلَا خَبَرَ بِذَلِكَ، وَظَاهِرُ كِتَاِبِ الِلَّهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ دَالٌّ عَلَى خِلَافِهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِذَلِكَ: أَنَّ اللَّهَ وَاللَّاعِنِينَ يَلْعَنُونَ الْكَاتِمِينَ النَّاسَ مَا عَلِمُوا مِنْ أَمْرِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَفَتِهِ وَنَعْتِهِ فِي الْكِتَابِ الَّذِي أَنْـزَلَهُ اللَّهُ وَبَيَّنَهُ لِلنَّاسِ، إِلَّا مَنْ أَنَابَ مِنْ كِتْمَانِهِ ذَلِكَ مِنْهُمْ؛ وَرَاجَعَ التَّوْبَةَ بِالْإِيمَانِ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْإِقْرَارِ بِهِ وَبِنُبُوَّتِهِ، وَتَصْدِيقِهِ فِيمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَبَيَانِ مَا أَنْـزَلَ اللَّهُ فِي كُتُبِهِ الَّتِي أَنْـزَلَ إِلَى أَنْبِيَائِهِ، مِنَ الْأَمْرِ بِاتِّبَاعِهِ؛ وَأَصْلَحَ حَالَ نَفْسِهِ بِالتَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ مِنْ صَالَحِ الْأَعْمَالِ بِمَا يُرْضِيهِ عَنْهُ؛ وَبَيَّنَ الَّذِي عَلِمَ مِنْ وَحْيِ اللَّهِ الَّذِي أَنْـزَلَهُ إِلَى أَنْبِيَائِهِ وَعَهِدَ إِلَيْهِمْ فِي كُتُبِهِ فَلَمْ يَكْتُمْهُ، وَأَظْهَرَهُ فَلَمْ يُخْفِهِ " فَأُولَئِكَ}، يَعْنِي: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ فَعَلُوا هَذَا الَّذِي وَصَفْتُ مِنْهُمْ، هُمُ الَّذِينَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ، فَأَجْعَلُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْإِيَابِ إِلَى طَاعَتِي، وَالْإِنَابَةِ إِلَى مَرْضَاتِي. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}، يَقُولُ: وَأَنَا الَّذِي أَرْجَعَ بِقُلُوبِ عَبِيدِي الْمُنْصَرِفَةِ عَنَّى إِلَيَّ، وَالرَّادُّهَا بَعْدَ إِدْبَارِهَا عَنْ طَاعَتِي إِلَى طَلَبِ مَحَبَّتِي، وَالرَّحِيمُ بِالْمُقْبِلِينَ بَعْدَ إِقْبَالِهِمْ إِلَيَّ، أَتَغَمَّدُهُمْ مِنِّي بِعَفْوٍ، وَأَصْفَحُ عَنْ عَظِيمِ مَا كَانُوا اجْتَرَمُوا فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ، بِفَضْلِ رَحْمَتِي لَهُمْ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَكَيْفَ يُتَابُ عَلَى مَنْ تَابَ؟ وَمَا وَجْهُ قَوْلِهِ: " إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ "؟ وَهَلْ يَكُونُ تَائِبٌ إِلَّا وَهُوَ مَتُوبٌ عَلَيْهِ، أَوْ مَتُوبٌ عَلَيْهِ إِلَّا وَهُوَ تَائِبٌ؟ قِيلَ: ذَلِكَ مِمَّا لَا يَكُونُ أَحَدُهُمَا إِلَّا وَالْآخَرُ مَعَهُ، فَسَوَاءٌ قِيلَ: إِلَّا الَّذِينَ تِيبَ عَلَيْهِمْ فَتَابُوا- أَوْ قِيلَ: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا فَإِنِّي أَتُوبُ عَلَيْهِمْ. وَقَدْ بَيَّنَا وَجْهَ ذَلِكَ فِيمَا جَاءَ مِنَ الْكَلَامِ هَذَا الْمَجِيءَ، فِي نَظِيرِهِ فِيمَا مَضَى مِنْ كِتَابِنَا هَذَا، فَكَرِهْنَا إِعَادَتَهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا}، يَقُولُ: أَصْلَحُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اللَّهِ، وَبَيَّنُوا الَّذِي جَاءَهُمْ مِنَ اللَّهِ، فَلَمْ يَكْتُمُوهُ وَلَمْ يَجْحَدُوا بِهِ: أُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا} قَالَ، بَيَّنُوا مَا فِي كِتَابِ اللَّهِ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَمَا سَأَلُوهُمْ عَنْهُ مِنْ أَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَهَذَا كُلُّهُ فِي يَهُودَ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: {وَبَيَّنُوا}، إِنَّمَا هُوَ: وَبَيَّنُوا التَّوْبَةَ بِإِخْلَاصِ الْعَمَلِ. وَدَلِيلُ ظَاهِرِ الْكِتَابِ وَالتَّنْـزِيلِ بِخِلَافِهِ؛ لِأَنَّ الْقَوْمَ إِنَّمَا عُوتِبُوا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ، عَلَى كِتْمَانِهِمْ مَا أَنْـزَلََ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ وَبَيَّنَهُ فِي كِتَابِهِ، فِي أَمْرِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدِينِهِ، ثُمَّ اسْتَثْنَى مِنْهُمْ تَعَالَى ذِكْرُهُ الَّذِينَ يُبَيِّنُونَ أَمْرَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدِينَهُ، فَيَتُوبُونَ مِمَّا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْجُحُودِ وَالْكِتْمَانِ، فَأَخْرَجَهُمْ مِنْ عِدَادِ مَنْ يَلْعَنُهُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُ اللَّاعِنُونَ وَلَمْ يَكُنِ الْعِتَابُ عَلَى تَرْكِهِمْ تَبْيِينَ التَّوْبَةِ بِإِخْلَاصِ الْعَمَلِ. وَالَّذِينَ اسْتَثْنَى اللَّهُ مِنَ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْـزَلَ اللَّهُ مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ، عبدُ اللهِ بْنُ سَلَامٍ وَذَوُوهُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، الَّذِينَ أَسْلَمُوا فَحَسُنَ إِسْلَامُهُمْ، وَاتَّبَعُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا}، إِنَّ الَّذِينَ جَحَدُوا نُبُوَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَذَّبُوا بِهِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَسَائِرِ أَهْلِ الْمِلَلِ، وَالْمُشْرِكِينَ مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ {وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ}، يَعْنِي: وَمَاتُوا وَهُمْ عَلَى جُحُودِهِمْ ذَلِكَ وَتَكْذِيبِهِمْ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ}، يَعْنِي: فَأُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ، يَقُولُ: أَبْعَدَهُمُ اللَّهُ وَأَسْحَقَهُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ، {وَالْمَلَائِكَةِ}، يَعْنِي وَلَعْنَهُمُ الْمَلَائِكَةُ وَالنَّاسُ أَجْمَعُونَ. وَلَعْنَةُ الْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ إِيَّاهُمْ قَوْلُهُمْ: " عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ ". وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى " اللَّعْنَةِ " فِيمَا مَضَى قَبْلُ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَكَيْفَ تَكُونُ عَلَى الَّذِي يَمُوتُ كَافِرًا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [لَعْنَةُ النَّاسِ أَجْمَعِينَ] مِنْ أَصْنَافِ الْأُمَمِ، وَأَكْثَرِهِمْ مِمَّنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَيُصَدِّقُهُ؟ قِيلَ: إِنَّ مَعْنَى ذَلِكَ عَلَى خِلَافِ مَا ذَهَبْتَ إِلَيْهِ. وَقَدْ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: عَنَى اللَّهُ بِقَوْلِهِ: {وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ}، أَهْلَ الْإِيمَانِ بِهِ وَبِرَسُولِهِ خَاصَّةً، دُونَ سَائِرِ الْبَشَرِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: {وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ}، يَعْنِي: بِ {النَّاسِ أَجْمَعِينَ}، الْمُؤْمِنِينَ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِالرَّبِيعِ: " وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ}، يَعْنِي بـِ " النَّاسِ أَجْمَعِينَ)، الْمُؤْمِنِينَ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ ذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يُوقَفُ عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ الْكَافِرُ فَيَلْعَنُهُ النَّاسُ كُلُّهُمْ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ قَالَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ: أَنَّ الْكَافِرَ يُوقَفُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَلْعَنُهُ اللَّهُ، ثُمَّ تَلْعَنُهُ الْمَلَائِكَةُ، ثُمَّ يَلْعَنُهُ النَّاسُ أَجْمَعُونَ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ ذَلِكَ قَوْلُ الْقَائِلِ كَائِنًا مَنْ كَانَ: " لَعَنَ اللَّهُ الظَّالِمَ"، فَيَلْحَقُ ذَلِكَ كُلَّ كَافِرٍ، لِأَنَّهُ مِنَ الظَّلَمَةِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ قَالَ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السَّدِّيِّ قَوْلُهُ: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ}، فَإِنَّهُ لَا يَتَلَاعَنُ اثْنَانِ مُؤْمِنَانِ وَلَا كَافِرَانِ فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا: "لَعَنَ اللَّهُ الظَّالِمَ"، إِلَّا وَجَبَتْ تِلْكَ اللَّعْنَةُ عَلَى الْكَافِرِ، لِأَنَّهُ ظَالِمٌ، فَكُلُّ أَحَدٍ مِنَ الْخَلْقِ يَلْعَنُهُ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ بِالصَّوَابِ عِنْدَنَا قَوْلُ مَنْ قَالَ: عَنَى اللَّهُ بِذَلِكَ جَمِيعَ النَّاسِ، بِمَعْنَى لَعْنِهِمْ إِيَّاهُمْ بِقَوْلِهِمْ: " لَعَنَ اللَّهُ الظَّالِمَ- أَوْ الظَّالِمِينَ ". فَإِنَّ كُلَّ أَحَدٍ مِنْ بَنِي آدَمَ لَا يَمْتَنِعُ مِنْ قَيْلِ ذَلِكَ كَائِنًا مَنْ كَانَ، وَمِنْ أَيِّ أَهْلِ مِلَّةٍ كَانَ، فَيُدْخَلُ بِذَلِكَ فِي لَعْنَتِهِ كُلُّ كَافِرٍ كَائِنًا مَنْ كَانَ. وَذَلِكَ بِمَعْنَى مَا قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ. لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَخْبَرَ عَمَّنْ شَهْدَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنَّهُمْ يَلْعَنُونَهُمْ فَقَالَ: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هُودٍ: 18] وَأَمَّا مَا قَالَهُ قَتَادَةُ، مِنْ أَنَّهُ عَنَى بِهِ بَعْضَ النَّاسِ، فَقَوْلُ ظَاهِرِ التَّنْـزِيلِ بِخِلَافِهِ، وَلَا بِرِهَانَ عَلَى حَقِيقَتِهِ مِنْ خَبَرٍ وَلَا نَظَرٍ. فَإِنْ كَانَ ظَنَّ أَنَّ الْمَعْنِيَّ بِهِ الْمُؤْمِنُونَ، مِنْ أَجْلِ أَنَّ الْكُفَّارَ لَا يَلْعَنُونَ أَنْفُسَهُمْ وَلَا أَوْلِيَاءَهُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُمْ يَلْعَنُونَهُمْ فِي الْآخِرَةِ. وَمَعْلُومٌ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ يَلْعَنُونَ الظَّلَمَةَ، وَدَاخِلٌ فِي الظَّلَمَةِ كُلُّ كَافِرٍ، بِظُلْمِهِ نَفْسَهُ، وَجُحُودِهِ نِعْمَةَ رَبِّهِ، وَمُخَالَفَتِهِ أَمْرَهُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: إِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ: مَا الَّذِي نَصَبَ " خَالِدِينَ فِيهَا "؟ قِيلَ: نُصِبَ عَلَى الْحَالِ مِنْ " الْهَاءِ وَالْمِيمِ " اللَّتَيْنِ فِي " عَلَيْهِمْ ". وَذَلِكَ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ}، أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَالْمَلَائِكَةُ وَالنَّاسُ أَجْمَعُونَ خَالِدِينَ فِيهَا. وَلِذَلِكَ قَرَأَ ذَلِكَ: " أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهُ وَالْمَلَائِكَةُ وَالنَّاسُ أَجْمَعُون " مَنْ قَرَأَهُ كَذَلِكَ، تَوْجِيهًا مِنْهُ إِلَى الْمَعْنَى الَّذِي وَصَفْتُ. وَذَلِكَ وَإِنْ كَانَ جَائِزًا فِي الْعَرَبِيَّةِ، فَغَيْرُ جَائِزَةٍ الْقِرَاءَةُ بِهِ، لِأَنَّهُ خِلَافٌ لِمَصَاحِفِ الْمُسْلِمِينَ، وَمَا جَاءَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ مِنَ الْقِرَاءَةِ مُسْتَفِيضًا فِيهِمْ. فَغَيْرُ جَائِزٍ الِاعْتِرَاضُ بِالشَّاذِّ مِنَ الْقَوْلِ، عَلَى مَا قَدْ ثَبَتَتْ حُجَّتُهُ بِالنَّقْلِ الْمُسْتَفِيضِ. وَأَمَّا " الْهَاءُ وَالْأَلِفُ " اللَّتَانِ فِي قَوْلِهِ: {فِيهَا}، فَإِنَّهُمَا عَائِدَتَانِ عَلَى " اللَّعْنَةِ"، وَالْمُرَادُ بِالْكَلَامِ: مَا صَارَ إِلَيْهِ الْكَافِرُ بِاللَّعْنَةِ مِنَ اللَّهِ وَمِنْ مَلَائِكَتِهِ وَمِنَ النَّاسِ. وَالَّذِي صَارَ إِلَيْهِ بِهَا، نَارُ جَهَنَّمَ. وَأَجْرَى الْكَلَامَ عَلَى " اللَّعْنَةِ"، وَالْمُرَادُ بِهَا مَا صَارَ إِلَيْهِ الْكَافِرُ، كَمَا قَدْ بَيَّنَّا مِنْ نَظَائِرِ ذَلِكَ فِيمَا مَضَى قَبْلُ، كَمَا:- حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ: {خَالِدِينَ فِيهَا}، يَقُولُ: خَالِدِينَ فِي جَهَنَّمَ، فِي اللَّعْنَةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ}، فَإِنَّهُ خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ عَنْ دَوَامِ الْعَذَابِ أَبَدًا مِنْ غَيْرِ تَوْقِيتٍ وَلَا تَخْفِيفٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا} [سُورَةُ فَاطِرٍ: 36]، وَكَمَا قَالَ: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا} [سُورَةُ النِّسَاءِ: 56] وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ}، فَإِنَّهُ يَعْنِي: وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ بِمَعْذِرَةٍ يَعْتَذِرُونَ، كَمَا:- حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ قَالَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ: {وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ}، يَقُولُ: لَا يُنْظَرُونَ فَيَعْتَذِرُونَ، كَقَوْلِهِ: {هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ}. [سُورَةُ الْمُرْسَلَاتِ: 36]
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: قَدْ بَيَّنَّا فِيمَا مَضَى مَعْنَى " الْأُلُوهِيَّةِ"، وَأَنَّهَا اعْتِبَادُ الْخَلْقِ. فَمَعْنَى قَوْلِهِ: " وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ": وَالَّذِي يَسْتَحِقُّ عَلَيْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ الطَّاعَةَ لَهُ، وَيَسْتَوْجِبُ مِنْكُمُ الْعِبَادَةَ، مَعْبُودٌ وَاحِدٌ وَرَبٌّ وَاحِدٌ، فَلَا تَعْبُدُوا غَيْرَهُ، وَلَا تُشْرِكُوا مَعَهُ سِوَاهُ، فَإِنَّ مَنْ تُشْرِكُونَهُ مَعَهُ فِي عِبَادَتِكُمْ إِيَّاهُ، هُوَ خَلْقٌ مِنْ خَلْقِ إِلَهِكُمْ مِثْلُكُمْ، وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ، لَا مِثْلَ لَهُ وَلَا نَظِيرَ. وَاخْتُلِفَ فِي مَعْنَى وَحْدَانِيَّتِهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ، مَعْنَى نَفْي الْأَشْبَاهِ وَالْأَمْثَالِ عَنْهُ، كَمَا يُقَالُ: " فُلَانٌ وَاحِدُ النَّاسِ- وَهُوَ وَاحِدُ قَوْمِهِ"، يَعْنِي بِذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ فِي النَّاسِ مِثْلٌ، وَلَا لَهُ فِي قَوْمِهِ شَبِيهٌ وَلَا نَظِيرٌ. فَكَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِ: {اللَّهُ وَاحِدٌ}، يَعْنِي بِهِ: اللَّهُ لَا مِثْلَ لَهُ وَلَا نَظِيرَ. فَزَعَمُوا أَنَّ الَّذِي دَلَّهُمْ عَلَى صِحَّةِ تَأْوِيلِهِمْ ذَلِكَ، أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: " وَاحِدٌ " يُفْهِمُ لِمَعَانٍ أَرْبَعَةٍ. أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ " وَاحِدًا " مِنْ جِنْسٍ، كَالْإِنْسَانِ " الْوَاحِدِ " مِنَ الْإِنْسِ. وَالْآخَرُ: أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُتَفَرِّقٍ، كَالْجُزْءِ الَّذِي لَا يَنْقَسِمُ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ مَعْنِيًّا بِهِ: الْمِثْلُ وَالِاتِّفَاقُ، كَقَوْلِ الْقَائِلِ: " هَذَانَ الشَّيْئَانِ وَاحِدٌ"، يُرَادُ بِذَلِكَ: أَنَّهُمَا مُتَشَابِهَانِ، حَتَّى صَارَا لِاشْتِبَاهِهِمَا فِي الْمَعَانِي كَالشَّيْءِ الْوَاحِدِ. وَالرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ مُرَادًا بِهِ نَفْيُ النَّظِيرِ عَنْهُ وَالشَّبِيهِ. قَالُوا: فَلَمَّا كَانَتِ الْمَعَانِي الثَّلَاثَةُ مِنْ مَعَانِي " الْوَاحِدِ " مُنْتَفِيَةً عَنْهُ، صَحَّ الْمَعْنَى الرَّابِعُ الَّذِي وَصَفْنَاهُ. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى " وَحْدَانِيَّتِهِ " تَعَالَى ذِكْرُهُ، مَعْنَى انْفِرَادِهِ مِنَ الْأَشْيَاءِ، وَانْفِرَادِ الْأَشْيَاءِ مِنْهُ. قَالُوا: وَإِنَّمَا كَانَ مُنْفَرِدًا وَحْدَهُ، لِأَنَّهُ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي شَيْءٍ وَلَا دَاخِلٌ فِيهِ شَيْءٌ. قَالُوا: وَلَا صِحَّةَ لِقَوْلِ الْقَائِلِ: " وَاحِدٌ"، مِنْ جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ إِلَّا ذَلِكَ. وَأَنْكَرَ قَائِلُو هَذِهِ الْمَقَالَةِ الْمَعَانِي الْأَرْبَعَةَ الَّتِي قَالَهَا الْآخَرُونَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ}، فَإِنَّهُ خَبَرٌ مِنْهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَنَّهُ لَا رَبَّ لِلْعَالَمِينَ غَيْرُهُ، وَلَا يَسْتَوْجِبُ عَلَى الْعِبَادِ الْعِبَادَةَ سِوَاهُ، وَأَنَّ كُلَّ مَا سِوَاهُ فَهُمْ خَلْقُهُ، وَالْوَاجِبُ عَلَى جَمِيعِهِمْ طَاعَتُهُ وَالِانْقِيَادُ لِأَمْرِهِ، وَتَرْكُ عِبَادَةِ مَا سِوَاهُ مِنَ الْأَنْدَادِ وَالْآلِهَةِ، وَهَجْرُ الْأَوْثَانِ وَالْأَصْنَامِ. لِأَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ خَلْقُهُ، وَعَلَى جَمِيعِهِمُ الدَّيْنُونَةُ لَهُ بِالْوَحْدَانِيَّةِ وَالْأُلُوهَةِ، وَلَا تَنْبَغِي الْأُلُوهَةُ إِلَّا لَهُ، إِذْ كَانَ مَا بِهِمْ مِنْ نِعْمَةٍ فِي الدُّنْيَا فَمِنْهُ، دُونَ مَا يَعْبُدُونَهُ مِنَ الْأَوْثَانِ وَيُشْرِكُونَ مَعَهُ مِنَ الْأَشْرَاكَ؛ وَمَا يَصِيرُونَ إِلَيْهِ مِنْ نِعْمَةٍ فِي الْآخِرَةِ فَمِنْهُ، وَأَنَّ مَا أَشْرَكُوا مَعَهُ مِنَ الْأَشْرَاكَ لَا يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ فِي عَاجِلٍ وَلَا فِي آجِلٍ، وَلَا فِي دُنْيَا وَلَا فِي آخِرَةٍ. وَهَذَا تَنْبِيهٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَهْلَ الشِّرْكِ بِهِ عَلَى ضَلَالِهِمْ، وَدُعَاءٌ مِنْهُ لَهُمْ إِلَى الْأَوْبَةِ مِنْ كُفْرِهِمْ، وَالْإِنَابَةِ مِنْ شِرْكِهِمْ. ثُمَّ عَرَّفَهُمْ تَعَالَى ذِكْرُهُ بِالْآيَةِ الَّتِي تَتْلُوهَا، مَوْضِعَ اسْتِدْلَالِ ذَوِي الْأَلْبَابِ مِنْهُمْ عَلَى حَقِيقَةِ مَا نَبَّهَهُمْ عَلَيْهِ مِنْ تَوْحِيدِهِ وَحُجَجِهِ الْوَاضِحَةِ الْقَاطِعَةِ عُذْرَهُمْ، فَقَالَ تَعَالَى ذِكْرُهُ: أَيُّهَا الْمُشْرِكُونَ، إِنْ جَهِلْتُمْ أَوْ شَكَكْتُمْ فِي حَقِيقَةِ مَا أَخْبَرْتُكُمْ مِنَ الْخَبَرِ: مِنْ أَنَّ إِلَهَكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ، دُونَ مَا تَدَّعُونَ أُلُوهِيَّتَهُ مِنَ الْأَنْدَادِ وَالْأَوْثَانِ، فَتَدَبَّرُوا حُجَجِي وَفَكِّرُوا فِيهَا، فَإِنَّ مِنْ حُجَجِي خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَاخْتِلَافَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَالْفُلْكَ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ، وَمَا أَنْـزَلْتُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَيْتُ بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا، وَمَا بَثَثْتُ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ، وَالسَّحَابَ الَّذِي سَخَّرْتُهُ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ. فَإِنْ كَانَ مَا تَعْبُدُونَهُ مِنَ الْأَوْثَانِ وَالْآلِهَةِ وَالْأَنْدَادِ وَسَائِرِ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ، إِذَا اجْتَمَعَ جَمِيعُهُ فَتَظَاهَرَ أَوْ انْفَرَدَ بَعْضُهُ دُونَ بَعْضٍ، يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ نَظِيرَ شَيْءٍ مِنْ خَلْقِي الَّذِي سَمَّيْتُ لَكُمْ، فَلَكُمْ بِعِبَادَتِكُمْ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِي حِينَئِذٍ عُذْرٌ، وَإِلَّا فَلَا عُذْرَ لَكُمْ فِي اتِّخَاذِ إِلَهٍ سِوَايَ، وَلَا إِلَهَ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ غَيْرِي. فَلْيَتَدَبَّرْ أُولُو الْأَلْبَابِ إِيجَازَ اللَّهِ احْتِجَاجَهُ عَلَى جَمِيعِ أَهْلِ الْكُفْرِ بِهِ وَالْمُلْحِدِينَ فِي تَوْحِيدِهِ، فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَفِي الَّتِي بَعْدَهَا، بِأَوْجَزِ كَلَامٍ، وَأَبْلَغِ حُجَّةٍ وَأَلْطَفِ مَعْنًى يُشْرِفُ بِهِمْ عَلَى مَعْرِفَةِ فَضْلِ حِكْمَةِ اللَّهِ وَبَيَانِهِ.
|